مجلس الأمن الدولي والمحاكم الدولية الخاصة: حالة رواندا...

Facebook Share

مجلس الأمن الدولي والمحاكم الدولية الخاصة: حالة رواندا ويوغسلافيا السابقة

بقلم: أكرم سلهب*

من بين جميع مؤسسات الأمم المتحدة المكلفة بحماية وتعزيز حقوق الشعب الفلسطيني، لم تفشل أيا من هذه المؤسسات في الوفاء بولايتها بطريقة مذهلة مثلما فعل مجلس الأمن الدولي؛ فخلال تاريخه البالغ 65 عاما، قام مجلس الأمن الدولي مرارا وتكرارا بحماية إسرائيل من المساءلة بموجب القانون الدولي، بل وعمل على إفشال كل المحاولات الدولية لمعاقبة إسرائيل من خلال مؤسسات الأمم المتحدة وإذهابها أدراج الرياح. وفي كل الحالات تقريبا، كان تقاعس مجلس الأمن في العمل ضد إسرائيل ناتجا عن قرار "فيتو" أمريكي، الذي استخدمته الولايات المتحدة 32 مرة ضد مشاريع القرارات المتعلقة بمساءلة إسرائيل، وذلك حفظا وحماية للمصالح الامبريالية الجيو- سياسية، بدلا من السعي لمساءلة إسرائيل عن جرائمها بحق الضحايا الفلسطينيين. إن عدم رغبة الولايات المتحدة لاستخدام موقعها في مجلس الأمن الدولي للضغط على إسرائيل لكي تمتثل للقانون الدولي هو تصرف أعمى، لأن "الفيتو" الأخير في مجلس الأمن حول المستوطنات قد أظهر أن الولايات على استعداد للتصويت حتى ضد سياستها المعلنة.

تظهر الحصانة الممنوحة لإسرائيل بوضوح في فشل المجتمع الدولي في تأسيس محكمة دولية خاصة لإجراء التحقيقات ومحاكمة المسؤولين الإسرائيليين المسؤولين عن ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني. وفي مقابل ذلك، أظهر مجلس الأمن الدولي خلال العشرين سنة الماضية، انه إذا كان راغبا أو مستعدا، فإنه قادر على اتخاذ مواقف حقيقية ضد الأنظمة المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وضد الحكومات المشاركة في أعمال التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وفي الأماكن التي يوجد فيها أنظمة إجرامية مثل نظام "الأبارتهايد" في جنوب أفريقيا. إن بحث موجز لمثالين من رواندا ويوغسلافيا يبين الدور "النزيه" الذي يمكن أن يلعبه مجلس الأمن الدولي في تقديم المجرمين للعدالة، كما ان هكذا بحث يسلط الضوء على كيفية تطبيق مثل هذه الردود الدولية على الجرائم الإسرائيلية المقترفة بحق الفلسطينيين.

رواندا ويوغسلافيا السابقة

عند بدء أعمال الإبادة الجماعية في رواندا، رفضت الولايات المتحدة في البداية أن تشرك نفسها فيما اعتبرته "صراعا محليا"، ودفعت مجلس الأمن الدولي للقيام بتخفيض عديد قوات منظمة الوحدة الأفريقية لحفظ السلام الموجودة هناك، وكان ذلك في نفس الوقت الذي كانت هناك حاجة ماسة إليها، وفقط بعد أن كان حوالي نصف مليون من شعب "التوتسي" قد ذبحوا بشكل منهجي، تنازلت الولايات المتحدة مبدئيا، وقالت انه "من الممكن أن تكون قد حدثت هناك إبادة جماعية". والأكثر مدعاة للقلق، هو الدور الذي لعبته دولة أخرى من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهي فرنسا التي رأت الصراع في رواندا من خلف عدسات نظارتها الاستعمارية، باعتباره محاولة من جانب الشعب الأفريقي الناطق بالانجليزية في أوغندا، لإقامة دولة ناطقة بالانجليزية لشعب "التوتسي"، وفي ردها على ذلك، قامت فرنسا بتسليح ودعم الحكومة التي يقودها "الهوتو" التي كانت مسؤولة عن تنظيم وممارسة الإبادة الجماعية.

ولكن بعد أن تمكنت الجبهة الوطنية الرواندية التي يسيطر عليها "التوتسي" من هزيمة الجيش الرواندي ووضع نهاية لأعمال الإبادة، وكانت آثار الموت والأعداد الهائلة للضحايا أكثر بكثير من إمكانية إخفائها، الأمر الذي أجبر مجلس الأمن على اتخاذ تدابير لجلب المجرمين أمام العدالة. وفي شهر تشرين ثاني 1994 أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 955 الذي نشأت بموجبه المحكمة الدولية الخاصة برواندا (ICTR). وتم تفويضها بولاية قضائية لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن أعمال الإبادة وغيرها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي. وتم لاحقا توسيع قدرات المحكمة من خلال اعتماد مجلس الأمن للقرار 1165 الذي أنشأ قاعة أخرى للمحكمة، وطلب المزيد من الإشراف القوي على عمل المحكمة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، الذي كان عليه تسهيل اضطلاع المحكمة بمهامها بشكل فعال.

والمحكمة التي تأسست خارج "أوشا" في تنزانيا المجاورة، كانت قد بنيت على أساس قرارات سابقة لمجلس الأمن الذي شكل بموجبها لجنة تحقيق من الخبراء لتقييم سيل الدعاوى التي تؤكد أن أعمال إبادة جماعية اقترفت في رواندا. وبعد إجرائها البحث اللازم، قالت اللجنة في تقريرها بأن الأدلة التي تشير إلى حدوث الإبادة هي أدلة واسعة وكثيرة، وأخذ مجلس الأمن على عاتقه الإجراءات اللازمة لمتابعة النتائج التي توصلت إليها التحقيقات وبالملاحقة القضائية للمسؤولين. وحتى اليوم، قامت المحكمة بالانتهاء من إجراء 50 محاكمة، 29 إدانة، 11 محاكمة جارية، 11 شخصا قيد الاعتقال بانتظار المحاكمة، و13 شخصا آخر من المطلوبين لم يتم القبض عليهم بعد.

وكان رد فعل المجتمع الدولي على الصراع في يوغسلافيا السابقة على نحو مشابه، فبعد ورود تقارير عن أعمال إبادة وتطهير عرقي واسع تم تقديمها من قبل بطرس غالي الذي أصبح لاحقا الأمين العام للأمم المتحدة، اسس مجلس الأمن الدولي بموجب القرار 808 المحكمة الدولية الجنائية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة (ICTY). ومثل المحكمة الخاصة برواندا، كان للمحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة ولاية قضائية لإجراء التحقيقات ومحاكمة المسؤولين عن أعمال الإبادة الجماعية، جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولكن؛ كان لتأسيس هذه المحكمة أهمية اكبر من محكمة رواندا؛ لأنها تأسست في وقت كان فيه القتال لا يزال مستمرا، مما يضع مزيدا من الضغط على الأطراف لردعها عن ارتكاب المزيد من المجازر، وهو هدف فشلت المحكمة في تحقيقه.

وعلى الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة قد حققت نجاحا في توجيه الاتهام والحكم على عدد من الأشخاص المتهمين، فإنها لا تزال تثير الجدل على المستوى الدولي بشأن تكاليفها الباهظة التي وصلت أرقاما فلكية (أكثر من 300 مليون دولار لموازنتها للعامين 200-2005)، والبطء الشديد في إجراء العديد من المحاكمات. والأهم من ذلك كله هو غياب الدعم المحلي للمحكمة من قبل البعض الذي يرى أنه تم تشكيلها من قبل مجلس الأمن بدلا من الجمعية العامة، التي يمكنها أن تعطي مؤشرا أقوى على الرأي العام الدولي الواسع، مما يعني أن المحكمة تستند إلى شرعية دولية ضيقة.

العدالة الجنائية من أجل فلسطين

يعطي المناخ السياسي الراهن فرصا محدودة، أو حتى مستبعدة جدا، لتحصيل الدعم السياسي الضروري من أجل اتخاذ إجراءات جادة ضد أولئك المسؤولين عن الانتهاكات المنهجية للحقوق الفلسطينية، وضد الطبيعة الإجرامية للنظام الإسرائيلي، ولكن من المرجح أكثر أن تنجح بعض المحاولات التي جرت على المسرح العالمي من أجل الملاحقة القضائية لأفراد مسؤولين عن ارتكاب أو الإيعاز بارتكاب جرائم حرب محددة، وخاصة مثل تلك المحاولات التي جرت في إسبانيا والمملكة المتحدة والتي تقود الطريق نحو تطبيق قوانين الولاية العالمية للقضاء، لضمان محاسبة الأفراد المسؤولين عن ارتكاب الجرائم.

ومع ذلك، فإن السبيل الوحيد لضمان وتعزيز فرص النجاح في ملاحقة إسرائيل قضائيا بموجب الولاية العالمية للقضاء، قد تتحسن وتصبح منظمة من خلال إحالة الوضع في فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية (ICC)، والتي تحل بفعالية محل المحاكم الخاصة باعتبارها الوسيلة الملائمة لمحاكمة مجرمي الحرب. وبالنسبة للفلسطينيين، فمن المرجح أن يتم تطبيق ذلك عن طريق تنفيذ "خارطة الطريق للمساءلة" الواردة في تقرير غولدستون، والتي أعطت للإسرائيليين والفلسطينيين مدة ستة شهور لإجراء تحقيقات داخلية (وطنية) في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي من الممكن أنها وقعت خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، والقيام بمحاكمة أولئك الذين يثبت تورطهم في هذه الجرائم. وبعد انقضاء مدة الشهور الستة، وعند عدم تلبية التحقيقات الداخلية للمعايير الدولية من حيث الاستقلالية، والحيادية، يوصي تقرير غولدستون بعدد من السبل البديلة لضمان مساءلة المسؤولين عن الجرائم.

وتكمن العقبة الرئيسية أمام هذا المسعى في استمرار معارضة قيادة المنظمة/السلطة تقديم اقتراح بعبارات صريحة وشديدة اللهجة يمكنها أن تولد آليات دولية من أجل المساءلة. وفي مثل هذا الموقف، الذي تزداد فيه صعوبة الحصول على استجابة دولية قوية، ومع ذلك، لا تجعل منه أمرا مستحيل الحدوث. فعلى سبيل المثال، عندما أنشأ مجلس الأمن الدولي المحكمة الخاصة برواندا، صوتت الحكومة الرواندية نفسها ضد القرار الذي أنشأها على خلفية أن الوقت المطروح للنظر في ومعالجة الوضع في رواندا كان محدود جدا، ومع ذلك، تم اتخاذ القرار وتم تشكيل المحكمة بدون موافقة حكومة رواندا التي كانت متورطة.

من المهم ملاحظته في كل من رواندا ويوغسلافيا السابقة، هو أن تلك المحاكم الخاصة قد تشكلت بعد ممارسة ضغوط كبيرة على المجتمع الدولي، وذلك بسبب فشله وإهماله في القيام بواجبه لحماية الضحايا موضوع القضية. وبينما حدث مثل هذا الوضع خلال وبعد الهجمات الإسرائيلية المستمرة، وآخرها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حيث لدى إسرائيل حلفاء أقوياء قادرون على ضمان استمرار حصانتها وإفلاتها من العقاب. وهذا الموقف لا يشكل إهانة لضحايا الجرائم الإسرائيلية فقط، ولكنه أيضا يوجه للمسؤولين الإسرائيليين رسالة مفادها بأن بإمكانهم العمل بدون خوف من الملاحقة القضائية، ويشجعهم على الاستمرار في ذبح الفلسطينيين. ويجري ذلك بينما الملاحقة الجنائية الجدية للقيادات الإسرائيلية تشكل أهمية خاصة لردع جرائم حرب أخرى في المستقبل.

الوضع في فلسطين أكثر تعقيدا بالنظر للدعم الأمريكي المتعنت لإسرائيل، مما يعني أن أية محاولة للعمل من خلال مجلس الأمن أمامها فرصة ضئيلة جدا للنجاح. ونتيجة لذلك، فإن الإستراتيجية الفلسطينية الساعية لتحقيق المساءلة الدولية تحتاج إلى التركيز على محاولة إيجاد سبل ومنابر دولية بديلة، يمكن من خلالها مقاضاة جرائم الحرب عن طريق آخر، غير طريق مجلس الأمن الدولي. وكما تقوم مقالات أخرى في هذا العدد من جريدة "حق العودة" بتسليط الضوء على عدد من هذه البدائل، مثل اقتراح العمل من خلال الجمعية العامة على أساس سابقة " الاتحاد من أجل السلام"، أو عبر طلب السلطة الفلسطينية من محكمة الجنايات الدولية الاعتراف بها كدولة لغايات تطبيق ميثاق المحكمة الجنائية (ميثاق روما)، وهذا الاقتراح الأخير ينطوي على عقبات سياسية وقانونية كبيرة. وفي كلتا الحالتين، لا يمكن تحقيق العدالة في فلسطين، إلا إذا تم حشد وتعبئة حركة دولية كبيرة ومستمرة، تطالب بمساءلة إسرائيل ومحاكمة مسؤوليها على جرائمهم، ومن ضمنها مقاطعة اسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها حتى تمتثل للقانون الدولي.
----------
* اكرم سلهب: منسق الاتصال والتواصل ومحرر مجلة المجدل في مركز بديل

Comments

No Results Found


Your Comment

* Your Comment
* Captcha